Thoughts & Arts
Image

تأثير الأحاديث النبوية في تطوير اللغة العربية

2025-09-30

Web Design

15 Comments


الإعداد: محمد تي اتش الدارمي (مدرس بكلية دار الحكم للشريعة والآداب ، تشمانيود)


المقدمة


ومن المعروف أن اللغة حساسة إلى حد ما، تتأثر فيها العوامل المختلفة نطقا وكتابة ومعنى، فنرى أن لغة واحدة تتغير نطقا ومعنى في ما بين شرقها وغربها، وذالك أولا لأنها هي أصوات تعبر عن أغراض الناس كما حدها ابن الجني في كتابه الخصائص (عثمان الموصلي الملقب بإبن الجني (٣٢٠ - ٣٩٢ ، ھـ ٩٣٢ - ١٠٠١م). والصوت تتغير مطلوباتها ومدلولاتها خفضا و رفعا و إستقامة وميلا. فمن الطبيعي أن تختلف وتتشكل حسب ناتج الصوت.


وثانيا لأنها وضعت آية تجذب وتلفت أنظار الناس كما قال ربنا سبحانه وتعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (الروم : ٢٢). فتصف الآية الشريفة اختلاف لغات البشر آية عظيمة لأنهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما أودع الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنوع التصرف وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة.


وثالثا لأن اللغات تشكلت طبيعية مع حركات وحاجات الناس، وتشكيل لغات الإنسان بحث بين العلماء دينيا وآندروبولوجيا حيث يذهب بعضهم إلى أن الله تعالى أودع في خلق الإنسان القوة اللغوية لما خلق أباهم آدم، ويستدلون عليه قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها (البقرة: ٣١)٠ وهذه النظرية منقوضة بعدم توحد لغات بني آدم بعد هبوطهم إلى الأرض. وأقوى النظريات في هذا الموضوع ما أثبت بعضهم من الفرضيّة التطوُّر الطبيعيّ، تدعي هذه الفرضيّة التطور الفطريّ الذي حصلَ للإنسان خلال تَعايُشه البشريّ، إذ إنَّ مَلَكةَ اللُّغة تطوَّرت نتيجةً لتطوُّر القُدرات البيولوجيّة فيه، أو العصبيّة لديه، ونتيجةً لزيادة مهاراته التعلُّمية؛ حيث إنَّه مع مُرور الوقت استطاع تشكيل نظام مُبتكَر للتفاهم، فتختلف لغة عن لغة حسب اجواء التعايش، ولهذه الأسباب نقول أن التغير ممكن في أي لغة حسب المواقع و العوامل المؤثرة. فلا خلاف في أن اللغات لها قوانين الطبيعية، وهي تطور دائم ومستمر، وهذه هي حساسية اللغة.


عوامل التغير والتأثر


وإن لتغير وتطور كل لغة أسبابًا وعوامل تساعد على هذا التغير وتنميه. واللغة هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم والتعامل بين أفراد المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة. فيكون ارتباطها قويا بالمجتمع. فتكون أهم الأسباب والعوامل اجتماعيا، ومنها ما هي داخلية ومنها ما هي خارجية، ومن الأسباب الخارجية منها: تأثير لغة في أخرى والتغير النابغ من امتزاج بين الثقافات واحتكاك بين الحضارات، ومن الداخلية منها: كثرة استعمال الألفاظ الأجنبية المستحدثة بدلا من ألفاظ غربية من نفس اللغة استعمال كلمة 'درايور' بدلا من السائق وكلمة 'سوب' بدلا من كلمة الصابون، ومنها أيضا القياس، بمعنى أن تقاس كلمة بكلمة أخرى خارجا عن القوانين اللغة وما إلى ذلك. ومنها أيضا ما يكون عن نهضة ثقافية مثل الدين والسياسة والصناعة والأساليب التقنية مثل تأثير القرءان والأحاديث النبوية على لغة الملة الإسلامية.


عوامل التأثر في كلام الرسول


إن الله سبحانه وتعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة بعثته مخاطبا له ومعلنا لدى البشرية جمعاء قائلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (الأحزاب: ٤٥ ، ٤٦)، فمنها على الترتيب: الشهادة على تبليغه، و بشارتهم بنجاة حياتي الدارين إذا قبلوا ما يدعو إليه، وانذارهم إذا أعرضوا عنه، ودعاؤهم إلى الله وكذالك أن يعيش فيهم حياة نيرة حتى يقتدي به كل من يرى ويعلم. فأغلب المهمات الدعوية من البشارة والإنذار والدعوة تؤدى بالكلام. فيجب أن يكون مقتدى به ومعجبا به في كلامه أيضا كما يجب أن يكون كذلك في كل أجزاء الحياة والمظاهر الظاهرية والباطنية، فقد كان كاملا في خلقته وأخلاقه حيث لا يعبس أحد فيه ولا يعترض أحد عنه وفضلا عما يقوله ويلقيه.


ولذلك أعطاه الله قوة جاذبية لكلامه وذلك من وجوه: ومنها أنه كان كلامه صلى الله عليه وسلم كان فصلا كما ترويه عائشة رضي الله عنها: كان كلامُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كلامًا فصلاً يفهمُه كلُّ من سَمِعَه أخرجه أبو داود. تعني أنه كان بحيث يفصل كل حرف عن آخر وكل كلمة عن أخرى حتى يفهم كل واحد ما يسمع منه صلى الله عليه وسلم. وإذا خاف خفاء أو قلة وضوح كان يكرر كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث رواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثًا، بمعنى أنه يكرر ذلك ثلاثًا، وهذا قد يُحتاج إليه، يعني إذا دعت الحاجة إلى التكرير لبعد المخاطب أو لأنه يرى بعضهم لم يصغِ إليه الإصغاء المطلوب أو لاشتغال عن المتكلم، فيعيد ذلك ثلاثًا من أجل أن يسمعه، وأن يفهم عنه مراده. والسلام أيضا كذلك لأنه أيضا مما لا بد أن يسمع المسلم عليه لما يحتوي من الدعاء، فإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثًا.


ومنها ما أعطي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم، قال صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه: فُضِّلتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلَّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (مسلم). ويشرح لنا الإمام النووي رحمه الله و يقول: كلامه صلى الله عليه وسلم كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني(المنهاج مع الصحيح لمسلم)٠ ومنها فصاحته صلى الله عليه وسلم، كان صلى الله عليه وسلم في فصاحة اللسان، وبلاغة في القول قد بلغ المحلّ الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، وفصاحة لفظ، وجزالة قول، وصحّة معان، وقلة تكلف، وخُصّ ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كلّ طائفة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، لقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لساناً، وأوضحهم بياناً، وأوجزهم لفظاً، وأقواهم حجّةً، قد آتاه الله الحكمة وفصل القول والخطاب، وفَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، وعلّمه ما لم يكن يعلم، كلامه كلّه يصدق عليه أنّه جامع مانع، سهل ممتنع، جزل فصل، لا تكلّف فيه ولا تصنّع، قد عصمه الله عن قول الشعر وقرضه، رحمة بالعباد، كيلا يلتبس عليهم ما لا يلتبس. وقال مفتخرا متواضعا: (أنا أفصح العرب، بيد أنّي من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر).


وهناك في آخر هذا الحديث إشارة واضحة إلى ما ساعده في تحسن كلامه مع ما منحه الله من الخصائص النبوية وهو ما تعلم وتدرب عليه وقت استرضاعه في بني سعد، وكيف لا يكون حسن البيان وفصيح اللسان؟ وأنه – بعد الفيض الإلهي- قُرَشيٌّ، وقريش أفصح العرب لسانًا، وأبرعها بيانًا، وأنَّه نشأ في بني سعد؛ حيث استرضع فيهم، وبنو سعد من أرقى قبائل العرب فصاحة، وبذلك جمع الله له بين جزالة كلام البادية، ورونق كلام الحاضرة، فأصبح كلامه، كما قيل: 'كلام كنظم الجمان في روض الجنان، وكأنه من كل قلب ينظم' (محاضرات الأدباء (1/122).


يصف الجاحظ ‏كلامه صلى الله عليه وسلم وصفًا دقيقًا شاملًا ويقول: 'هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد (وَمَآ ‌أَنَا۠ ‌مِنَ ‌ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ) استعمل المبسوطَ في موضع البسط؛ والمقصورَ في موضع القَصْر، وهجر الغريبَ الوحشيَّ، ورغب عن الهجين السُّوقيِّ؛ فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعِصْمة، وشُدَّ بالتأييد، ويُسِّر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبَّةَ عليه وغشَّاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلةِ عدد الكلام هو مع استغنائه عن إعادته وقلةِ حاجة السامع إلى مُعاودته، لم تسقط له كلمةٌ، ولا زلَّت له قدم، ولا بارَتْ له حُجة، ولم يَقُم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَب الطِّوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصدق، ولا يطلب الفلَج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المؤاربة، ولا يَهْمِزُ ولا يَلْمِزُ، ولا يُبْطِئ ولا يَعجل، ولا يُسهِب ولا يَحْصر؛ ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعمَّ نفعًا ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرمَ مطلبًا، ولا أحسنَ موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصحَ عن معناه، ولا أبينَ في فَحْوَى من كلامه ﷺ كثيرًا' (البيان والتبيين/ الجزء الثاني صفحة: ١٦).


ويحق لكلامه صلى الله عليه وسلم أن يكون في رونق الجمال و الجاذبية لأنه مرسل يدعو الناس إلى طريق الخير والسلام، وذالك لا يؤدى بنمط واحد أو بعبارة واحدة لأن الناس متفاوتون بقدر عقولهم و بقدر قابليتهم وبفهمهم لكلام، وكذلك الأحوال أيضا لا تكون متساوية بينما المشاعر مختلفة، وقد تميز النبي صلى الله عليه وسلم بقدرته الفائقة على التعبير عن المشاعر الإنسانية بأسلوب بلاغي راقٍ وملهم ومناسب للأحوال، فنرى في سيرته العطرة العديد من المواقف التي تجسد مشاعره بأسلوب يفوق الوصف، سواء في أوقات الفرح أو الحزن أو الصعوبات، في مواقف الفرح، كان النبي صلى الله عليه وسلم يُظهر السعادة والسرور بطرق تلامس جوهر الإنسان. روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: 'ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم'، وهذا يظهر كيفية تعبيره عن الحب والفرح تجاه الأطفال، مُبرِزًا عناصر الرحمة واللطف في شخصيته.


أما في مواقف الحزن، فيظهر صلى الله عليه وسلم في حالة الحزن عاطفية متأثرة لكنه ما كان يتجاوز ويتعدي المشاعر الإيمانية. فمثلاً، عند وفاة ابنه إبراهيم، بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ردا على من استغرب فيها: 'إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون'. تتجلى في هذا الموقف مدى الإحساس العميق بدون أن يفقد ثقته برحمة الله وحكمه. و في أوقات الصعوبات، كان تعبير النبي صلى الله عليه وسلم يتسم بالهدوء والصبر، مؤكداً على قيم الثبات والإيمان. كما نرى عندما حاول بعض القبائل العربية قتله في غزوة أحد، قال: 'اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون'. هذه العبارة تحمل في طياتها غاية الرقي والتسامح، حيث عبّر عن مشاعر حرجة بأبلغ العبارات. إذًا، قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على التعبير عن المشاعر والحالات الإنسانية كانت تمتاز بعمق البلاغة ودقتها، مستعينًا بأسلوب يرفع من قدر الشخص ويعزز من قيم الإنسانية. ومن ذلك أيضا أنه صلى الله عليه وسلم رأى امرأة تبكي عند قبر فقال: 'اتقي الله واصبري'. قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه. فلما قيل لها: إنه كان النبي ركضت و أتت باب النبي فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: 'إنما الصـبر عند الصدمة الأولى' (مسلم). وكانت هذه العبارة في روعة عظيمة في المعنى والمقصود، لأنها قد جمعت مع الإيجاز الحكمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة الموجزة يريد أن يقول لهذه المرأة الثكلى التي فقدت صبيها وقد آلمها المصاب، وأجزعتها الفجيعة أن الصبر الحقيقي عند شدة المصيبة وفي صدمتها، وأدق ألفاظها حيث جاء بـــ 'إنما' التي تفيد القصر في أول الكلام، وعرف الصبر بـ"أل"، وعبر عن شدة المصيبة بالصدمة الأولى.


وفي أسلوب التعبير النبوي لمسة استيعاب، فعلى سبيل المثال، نجد في قوله صلى الله عليه وسلم: 'إنما الأعمال بالنيات' مثالاً رائعاً لجوامع الكلم، حيث تحتوي هذه الجملة البسيطة على معانٍ واسعة تفتح مجالات تفسيرية تتعلق بأهمية النية في كل عمل يقوم به الإنسان وتتسع الجملة القصيرة هذه لتلك المعاني. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'الدين النصيحة'، جملة في غاية البساطة تتجلى فيها مدى قدرة النبي على تكثيف المعاني في كلمات قليلة، حيث يقدم بهذا الحديث تصورًا شاملًا لدور النصيحة في الدين وأهميتها البالغة. وكانت هذه الميزات تبدو حتى في كلامه المعتاد، ومن أمثلتها مالا يوازى فصاحة ولا يبارى بلاغة كقوله: 'المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم' وقوله : 'الناس كأسنان المشط'، و'المرء مع من أحب'، و'لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له'، و'الناس معادن' ، و'ما هلك امرؤ عرف قدره'، و'المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم'. وليست منحصرة في الخبريات ولكننا نراها في انشائياته أيضا، ومن الأمثلة قوله صلى الله عليه وسلم: 'أسلم تسلم' ، و'أسلم يؤتك الله أجرك مرتين'، و'لعله كان يتكلم بمالا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه' وما إلى ذالك.


يقول الأديب العربي مصطفى صادق الرافعي (١٢٢٩-١٣٥٦ هجري) في كتابه إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، أن بلاغته صلى الله عليه وسلم تكمن في ثلاثة عناصر وهي التربية الربانية، تأثره بالقرآن الكريم، الفطرة السليمة، وإن نسق بلاغته صلى الله عليه وسلم يمتاز في جملته بأنه ليس من شيء أنت واجده في كلام الفصحاء وهو معدود من ضروب الفصاحة ومتعلقاتها، لأن كلام النبي عليه الصلاة والسلام في باب التمكين لا يعدله شيء من كلام الفصحاء وأساطين البلغاء، إذ هو مبني على ثلاثة أسس، هي: الخلوص، والقصد، والاستيفاء، وهي ثلاث دعائم، وهذه الدعائم هي الترجمة المعاصرة لما كان معروفًا سلفًا من حيازته صلى الله عليه وسلم لجوامع الكلم، وانتفاء اللغو عن كلامه، إذ كلامه فصل، لا فضول فيه، ولاجتماع تلك الثلاث في كلامه صلى الله عليه وسلم سلم هذا الكلام العظيم من التعقيد، وسلمت وجوهه من الاستعانة بما لا حقيقة له من أصول البلاغة.


ومن عجائب كلامه صلى الله عليه وسلم أنه وإن لم يكن على معايير معروفة لدى العرب آنذاك نرى أن أدباء العربية لما أنشؤوا ونظموا قوانين الأدب العربي ومحسناته ولمسات بلاغته كان كلامه صلى الله عليه وسلم موافقا ومطاوعا لها حتى تمكن لهم أن يأخذوا من كلامه أمثلة لإثبات قواعدهم، مثلا نعلم أن رعاية السجع مما تعد من المحسنات العربية، ولكننا نرى كثيرا من كلامه صلى الله عليه وسلم يراعي السجع الذي هو تماثل الحروف في مقاطع الفصول، كما نرى في حديث عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شأنه)(مسلم)، والسجع هنا قد توشح بفن آخر من فنون الأدب البديع المعنوي، وهو فن الطباق الذي هو الجمع بين الشيء وضده في جزء من أجزاء الكلام، وذلك في قوله: 'لا يكون، ولا ينزع'، و كذلك في قوله: 'زانه، وشانه'، وهذا مما يزيد هذا السجع حسناً وجمالاً أن يجمع معه فن آخر من فنون البديع فيزداد الكلام رونقاً وحلاوة وطلاوة.


وكذلك نرى الطباق في قوله صلى الله عليه وسلم: في حديث أبي إمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن آدم: إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى (أحمد). ومن المحسانات البديعية في كلامه صلى الله عليه وسلم المقابلة التي هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر، ثم ما يقابل ذلك على الترتيب، ومن النماذج لها حديث أبى موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم (الترمذي). وكذلك نرى كثيرا من اللمسات البديعية فيه مثل الجزالة التي هي تعبر عن قوة اللفظ وإحكامه وشدته وعظمته و الرِّقَّة التي هي عبارة عن اللطف والسهولة، ورقة الحاشية، ونعومة الملمس وامثلتها كثيرة لا تسع لوقت أو صفحات محددة مقررة.


وبالجملة أن كلامه صلى الله عليه وسلم كان مليئا بالعوامل الأدبية المؤثرة، وهذا مما يزيد امكانية تأثير الأحاديث النبوية في اللغة العربية.


نمادج تأثير الأحاديث النبوية في اللغة العربية


وقد أثْرَت لغة الحديث النبوي لغة العرب بوجوه كثيرة ومنها احتوائها على ألفاظ وتراكيب لم تُسمع من العرب قبله، قال الخطَّابيُّ: 'ومن فصاحتِه صلى الله عليه وسلم أنَّه تكلَّم بألفاظٍ اقتضبها، لم تُسمَعْ من العَرَبِ قَبلَه، ولم توجَدْ في متقَدِّمِ كَلامِها، كقولِه: مات حتف أنفه، حَمِي الوطيسُ ، ولا يُلدَغُ المُؤمِنُ من جُحرٍ مرَّتينِ'. و معنى و مراد 'مات حتف أنفه' مات ميتة طبيعية ولم يقتل، ووجه دلالة هذا الإستعمال هو أنه عندما يموت الرجل على فراشه، فستخرج روحه من أنفه وفمه وعندما يموت بقتل أو حادثة كانت العرب تتخيّل أَن روحه يخرج من مَقْتَلِه فيقول إنه مات حتف أنفه. والحتف معناه الموت. فأما كلامه 'حَمِي الوطيسُ' عبارة تعني اشتداد المعركة أو الأمر وتفاقمه، والوطيس في الأصل هو حفرة يُخبز فيها أو حجارة مستديرة إذا حميت. قالها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين اشتدت المعركة، ويروى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفِعَتْ له أرض مُؤتَةَ فرأى معترك القوم، فَقَال: الآنَ حمَى الوطيسُ، آي أشتدَّ الأمر وشبَّه اشتداد الحرب بالحجارة الحامية التي لا يمكن لأحد أن يطأها. (كتاب مجمع الأمثال عن الأصمعي وغيره الباب السادس عشر)٠


ومنها الأمثال البليغة للنبي صلى الله عليه وسلم ومنها قوله: ولا يُلدَغُ المُؤمِنُ من جُحرٍ مرَّتينِ، هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، وأن المؤمن يمنعه إيمانه من اقتراف السيئات التي تضره مقارفتها، وأنه متى وقع في شيء منها، فعليه في الحال يبادر إلى الندم والتوبة والإنابة. ومنها أيضا قوله عليه الصلاة والسلام 'لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين'، هذه المقولة صدرت من النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله أبو عزة الجمحي يوم أحد ان يمن عليه لبناته، وكان قاتله يوم بدر وكان بين الأسارى فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فدية، واشترط عليه أن لا يقاتله. ولكنه رجع وقاتله يوم أحد فلما أسر قال: 'يا محمد امنن علي لبناتي وأعاهدك أن لا أقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين'، ثم أمر به فضربت عنقه. (البداية والنهاية) و ذكر بعضهم أن مقولته: 'لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين أيضا' وقعت يومذاك.


وامثال النبي صلى الله عليه وسلم اشتملت على كل الأنواع منها، من الأمثال القياسية التي هي ما فيه نوع من التشبيه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: 'مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة هذه' (مسلم عن أبي هريرة)، ومن الأمثال السائرة التي أصبحت بمثابة دليل يستدل به في غير ما يتعلق بحكم شرعي فقهي أو عقدي مثل قوله عليه الصلاة والسلام: 'أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم' (بخاري و مسلم عن عائشة رضي الله عنه)، ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: 'الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا' (بخاري عن أبي هريرة).


وكذالك إشتمل كلامه صلى الله عليه وسلم على كل أساليب اللغة العربية من الطريقة الإلقائية مثل قوله عليه الصلاة والسلام: 'من سلك طريقاً يطلب فيه علماً٠٠' إلى آخر الحديث، ومثل الطريقة الاستنتاجية مثل قوله عليه الصلاة والسلام: 'ألا أنبئكم بأكبر الكبائر..' إلى آخر الحديث، ومثل أسلوب الترغيب كما قال: 'عليكم بالصدق' وكذلك أسلوب الترهيب كما قال: 'إياكم والكذب..' و أسلوب استخدام أداة لإثارة الانتباه والتشويق كما يستخدم 'ألا !' وكذلك أسلوب تغيير المشهد كما كان متكئاً فجلس..




تأثرت الأحاديت النبوية في كل أنواع الكلام العربي بنطاق واسع مثل النثر و الشعر والخطب والرسائل والقصة وما إلى ذالك، أثرت الأحاديث النبوية في النثر العربي بشكل كبير، حيث ساهمت في توسيع اللغة العربية، وتسهيل الأساليب، وتهذيبها، وإثرائها بالمعاني الجديدة والأفكار السامية. وأدى ذلك إلى تطور النثر العربي نحو التحرر من القيود الأدبية، وظهر لون جديد من الكتابة المرسلة السهلة، والتي استلهمت من فصاحة الأحاديث وقوتها، وأما في الشعر كان سعيه صلى الله عليه وسلم تخلية الشعر من جاهليته وتحليته بحسنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : 'الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام' ( الأدب المفرد، كتاب الشعر)، وكان صلى الله عليه وسلم يشجع الشعراء الذين كانوا يدافعون عن العقيدة الإسلامية وكتاب الله ورسوله ، أمثال حسان بن ثابت وكعب بن زهير وغيرهم، فقال لحسان بن ثابت رضى الله عنه: 'أهج المشركين ، فإن جبرئيل معك' ، وكان يقول له : 'أجب عني' كما كان يدعو له : 'اللهم أيده بروح القدس'، ( البخاري).


وفن الخطابة ما لا يمهل في اجتماعية قوم و أمة، فمن البين أن يكون فيه أيضا منحة نبوية، وكان نوعا مستقلا في الأدب العربي ، وكان شائعاً في العرب، ولكن لما جاء الإسلام قامت الخطب على قوائم الحديث النبوي، حيث اشتدت الحاجة إلى الخطابة في الدعوة ، وكانت للخطب النبوية ملامحها الأدبية الخاصة في الاستدلال والعبر. وأما فن الرسائل و كانت الرسائل أضعف فنون الأدب قبل الإسلام، وأقواها بعد مجيئها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه أن يكتب رسائل إلى الملوك والحكام داعيا إياهم إلى الإسلام، وكانت تلك الرسائل على قمة الأدب واللغة، مثلاً نقرأ في ما ارسله إلى عظيم الروم يقول فيه: 'من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت عليك إثم الأريسيِّين' ( البخاري و مسلم).


والقصة ما كانت بعيدة ابدا في تبليغه صلى الله عليه وسلم، وهي فن من فنون الأدب، وكان هذا الفن رائجاً في الأدب العربي حتى قبل الإسلام، ولكن القصة في الحديث النبوية جاءت بشكل مؤثر وأدبي تستميل القارئي بصورها المتنوعة وأحداثها المتلاحقة، والقصص الحديثية لها خزينة في الأحاديث النبوية، كما في الحديث النبوي قصة رجل كان من قبلنا قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم الأرض، فدل على راهب ، فأتاه ، فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة، فقال : لا ، فقتله فكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم الأرض فدل على رجل، فقال : هل له من توبة ، فقال نعم ، انطلق إلى أرض كذا . . إلى آخر أحداث القصة.


التأثرات وتطوير اللغة العربية


أثر الأحاديث النبوية في الأدب العربي عميق ومتعدد الجوانب، حيث أغنت اللغة العربية بالألفاظ والتراكيب والمعاني، وهذبت أساليبها، ورسخت فيه روح الإخلاص والصق المنهج الإسلامي في الكتابة، خاصة في المديح النبوي والأدب الديني، لتشكل بذلك مرجعاً أساسياً لفهم الإسلام وتوجيه الذوق الأدبي والثقافي. توسيع ثروة الألفاظ، إبداع تراكيب جديدة، حفظ اللهجات العربية، توجيه الأدب نحو المنهج الإسلامي كلها من نتاج هذه التأثيرات.


فحيث نالت وحازت اللغة العربية بعد نجاة دعوة الرسول لفة نظر واعتبار عالمي ودخلت العربية حياة المسلمين عربهم وعجمهم عن طريق العبادات والعلوم الشرعية أخذت الأحاديث النبوية مأخذا لا يعرض عنه ولا يهمل في تطويرات اللغة العربية وما زالت حتى في الوقت الراهن. ويدل على ذلك ما نرى في الصحف والمنشورات الحديثة حيث يأخذون أساليب الأحاديث والفاظ ما ورد فيها حتى في الرئيسيات.


الخاتمة


أثّرت الشريعة الإسلامية بمصدريها الأساسيين: القرآن الكريم والحديث النّبويّ الشّريف في شتّى ميادين الحياة ومجالاتها العلميّة، والفكريّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة وغيرها.. ولأن القرآن الكريم نزل بلسان عربيّ مبين، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم أوتي الفصاحة والبلاغة وجوامع الكلم حتّى بات أفصح العرب لسانا وأوضحهم بيانا؛ فإنّ أوّل ما تأثّر بهذه الفصاحة والبلاغة والبيان هي اللّغة العربيّة ذاتها حيث زادها القرآن الكريم والحديث الشريف غنى، وثراء، ورقيّا. وقد تناول هذا البحث أثر الحديث النبوي الشريف في اللغة العربية على مستوى الألفاظ والمعاني والتراكيب والأسلوب واللّهجات بقدر ما نقدر داخل حوزة الوقت المعين وعدد الصفائح حيث نجد أن الحديث النبوي الشريف ارتجل ألفاظا جديدة في العربية لم يكن العرب استخدموها من قبل، كما أنّه اشتقّ لكثير من الألفاظ المستعملة معاني جديدة لم تكن العرب تعرفها، وأبدع تراكيب تبارى اللّغويّون في شرحها وكشف سحر بيانها، بالإضافة إلى أن الحديث النبويّ الشّريف حفظ لنا لهجات قبائل عربيّة مختلفة أهمل اللّغويّون تدوينها ولولا استخدام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكلامه بها ونقلها من قبل المحدّثين أثناء روايتهم وتدوينهم الحديث الشريف ما كنّا عرفناها. فلا شك أن تأثير الحديث النبوي الشريف على اللغة العربية تاثيرا كبيرا ومتنوّعا بتنوّع مجالات اللّغة، وهذا كله في صالح دفع عجلة البحث العلمي اللّغوي وتطوّره.




محمد تي اتش الدارمي
الهاتف: ٨١١١٨١٤٨٢٩
الموقع الإلكتروني: thdarimi.in























.




0 Comments

No comments yet.

Leave a Comment

© www.thdarimi.in. All Rights Reserved. Designed by zainso