Thoughts & Arts
Image

يريدون ليطفؤوا

2025-05-01

Web Design

15 Comments

محمد تي اتش الدارمي
..


وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يريد أن يسال رسول الله عن مصرف يصرف إليه قسطه من المال الذي نال من فيء خيبر. وكان لا يحتاج الى مال وكان أيضا لا يريد ان يورث اولاده ولكنه كان يريد ان يجعله له دخرا في رحلته الدنيوية والأخروية. ولكنه لا يريد ان يتصدق به على فقير او مسكين محتاج. لأنها لا تترك عينا ولا تبقي شيئا فيكون الثواب والأجر لمرة واحدة فقط. فيتضح أن مراده كان أن يجعله صدقة مع بقاء عين المال وأن يجعله جاريا الى الأبد. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله وقفا على الفقراء والمساكين. وهي القصة الأولى للأوقاف في ثقافة الإسلام. (صحيح ابن خزيمة : باب ذكر أول صدقة محبسه تصدق بها في الإسلام). فنفهم من هذه القصة أن الأوقاف في الإسلام ليست ممتلكات اغتنمها المسلمون في حروبهم. وهي ليست موروثات أغنيائهم الذي فقد أو عدم من يرثهم. وليست أموالا صرفها السلاطين لمصالحهم. ولكنها أموال وممتلكات جعلها المسلمون الأسخياء وصرفها لمصالحهم الخيرة لأن تكون دخرا وسلفا في رحلتهم الأخروية. ولأن تكون صدقة جارية وأجرا غير منقطعا لهم. فالوقف ليس مجرد ملك أو تمليك ، وإذا كان كذالك يقدر للواقف أو الموقوف عليه أن يتصرف حسب رغبته أو حسب زمانه أو حسب سياساته التعاملية الخاصة. ولكن الموقف ليس فيه دخل لأي شخص إلا على وجه ولاية الأمر لأن الوقف يصير ملكا لله وحده من البداية. فيراعى هناك ماشرعه فقط. ومن هنا نبدأ الكلام عن الوقف والمواقف الجديدة.


الوقف له شروط لا يصح ولا يقبل إلّا بها، مثل: أن يكون في شيء معروف ينتفع بها مع بقاء عينها. يعني أن لا يكون النفع به في إستهلاكه. يعني يجب أن ينتفع به مع بقاء عينه فلا يمكن أن يوقف شيئا لا يقدر على إبقاء العين كالوقود للإحراق والماء للشرب لأنهما لا يبقيان بعد الإنتفاع بهما. وأن يكون في أبواب الإحسان كالمساجد، والآبار، والأقارب، وأن يوقف على أمر محدد من جهة كمسجد كذا، أو شخص معين كزيد او أبناء زيد، أو صنف كالفقراء. وأن يكون مؤبداً غير مؤقت ولا معلّق إلّا إذا علّقه بموته. وأن يكون الواقف كامل الأهليّة في حركة التصرّف. وكذالك هناك شروط تعاملية خاصة للأوقاف وهي أن الوقف محبوس الأصل، فلا يباع، ولا يوهب، ولا يورث فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : ( تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ). ومنها كذالك أنه يجب العمل بشرط الواقف إذا كان لا يخالف الشرع , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلمون على شروطهم , إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ). وهذه الشروط وتلك الضوابط تشير إلى أمور خلاصثها أن الأموال الموقوف ملك لله وأمانة لدى المسلمين وليس لهم في أمر الأوقاف إلا النظر بالمصلحة والرعاية بالأمانة وأن الوقف بمثابة قربة فلا مجال لرأي ولا كلام فيه لغير الله. لأن المال مال الله وقد شرع فيه كل شيئ يغني عن حكم أو قرار أحد حاكما كان أو محكوما. وهذه هي حقائق الوقف التي هي اللتي تعجز المسلمين عن أي تنازل في امره.


وهذه مقدمة بسيطة تقودنا إلى النقاشات الجديدة في الهند في قضية الأوقاف الإسلامية إثر محاولة حكومة ناريندرا مودي التدخل إلى الأوقاف الطائلة في الهند. وذالك بإنشاء قانون جديد يساعدهم لهذا التدخل بإسم سياق تعديل قانون الأوقاف لعام 1995. والقضية أثارت جدلًا كبيرًا داخل الهند وعلى الساحة الدولية. ويأتي هذا القانون في إطار سياسة داخلية تهدف إلى تعزيز الهوية القومية الهندوسية التي يتبناها حزب “بهاراتيا جاناتا” الحاكمة. يستهدف الحزب هذا الإستيلاء على قوة الأمة المسلمة في الهند من عدة جوانب. وهي أولا طمعهم في هذه الأملاك التي تقدر پأراضي أكثر من (940,000) فدان، بقيمة تقديرية تصل إلى (1.2) تريليون روبية (نحو 14.22 مليار دولار). لأنه هناك أكثر من (872,351) عقارًا تابعًا للأوقاف الإسلامية، تشمل مساجد، ومدارس دينية، وأضرحة، وأراضي شاسعة. ومن الجدير للذكر أن هذه الأموال أغلبها مما وقفها السلاطين الذين حكموا الهند والأغنياء من التجار والمحظوظين. رغم أنهم لم يحاول ولم يهتم كثيرا لنشر الإسلام ولو في عواصمهم أسسوا مساجد ومعاهد وقلع وقصور راسخات وبساتين جذابة. وهذه الأموال والأملاك أغلبها في مدن كبيرة وفي أمكنة مرموقة غالية. فمن الطبيعي أن ينظروا إليها بعين الحسد والطمع.


وثانيا و لهم على المسلمين من الحسد والغيرة ما لا يشفي غيظهم نحو المعاني السامية المؤدية إلى هذه الطاعة العظيمة. لأن المسلم المؤمن لما يوقف يجعل ماله لله رجاءا في الثواب الإلهي فذالك ينبأ عن قوة وصدق إيمانه. وهذا النوع من التشبث الديني عامل رئيسي في إثارة البغض والحسد لأن هذا مظهر عام في حياة المسلمين. و هذا لا ينحصر في الوقف فقط بل هو موجود في كل أحوال المؤمنين من أداء الصلوات خمس مرات في كل يوم والصيام المتتابع طوال شهر كامل مع ما يلتزمه من الأخلاق الفائقة والمعاملات الطيبة. وثالثا المسلمون هم وحدهم يتصرفون ويولون أمور الأوقاف لأنه كما أسلفنا من مسؤوليتهم الدينية فمن البين أنه يوحد صفوفهم ، وهذا التوحيد خطير لديهم خاصة في عصر محاولتهم للإستيلاء على الأقليات بالأفكار التطرفية الحزبية والقومية. ولهذه الأهداف الشنيعة كثيرا ما تحاول الحكومة عدة محاولات ضد المسلمين مذ تولى الحكم. ومنها إصدار القرار الجديد بإسم التعديلات الدستورية في الأوقاف. وتقول الحكومة إن التعديلات هذه تهدف إلى تعزيز الشفافية والكفاءة في إدارة الممتلكات الوقفية ومعالجة الفساد المزعوم في مجالس الأوقاف، بالإضافة إلى تلبية مطالب بـالإصلاح من داخل المجتمع المسلم نفسه. كما يسعى القانون إلى إعادة تقييم ملكية هذه العقارات من خلال إجراءات تسجيل جديدة وتحقيقات حكومية.


ولكن التعديلات الجديدة في القانون بحسب ما بيّنه الوزير الأسبق سلمان خورشيد، تكشف عن جهل عميق بطبيعة الوقف وأحكامه. فقد اشترط القانون الجديد أن يكون الواقف مسلماً مارس شعائر الإسلام لخمس سنوات ، وهو شرط غريب يناقض جوهر الإسلام الذي لا يشترط الممارسة لإثبات الإيمان ، بل يكفي النطق بالشهادتين. كما تكشف أيضا سوء المراد وراء هذه التعديلات حيث تلغي مفهوم الوقف بالاستخدام (Waqf by user) ، وهو المفهوم الذي يعترف بالملكية الوقفية لمكان استخدم منذ قرون كمسجد أو قبر أو مدرسة دينية حتى وإن لم تُسجل أوراقه رسمياً. والغاء هذا المفهوم يستهدف الغاء آلاف من الأماكن الدينية من حوزة الأمة ويؤدي إلى الضياع. ومن أبرز التعديلات المثيرة للجدل هي منح صلاحيات واسعة للمحافظ (Collector) في تحديد ملكية أراضي الوقف، وهو أمر خطير لأنه يُخضع ملكية دينية لسلطة تنفيذية غير مختصة شرعاً أو قانوناً. هذا التحول يعتبر خرقاً لمبدأ حكم السلطات، ويمنح الإدارة القدرة على تقرير مصير ممتلكات وقفية دون رقابة قضائية حقيقية. و تتضمن التعديلات أيضاً تأسيس مجالس وقف منفصلة للسنّة والشيعة، مما يُخشى أن يُعمق الانقسام داخل الطائفة المسلمة. كما أن الحديث عن مجلس خاص بالبوهرة والآغاخانية يعكس محاولة لتفتيت الصوت الإسلامي وتقسيمه إلى كيانات طائفية يسهل التحكم بها. و من أخطر ما جاء في هذه التعديلات فتح الباب لغير المسلمين لتولي أمور الوقف. ومن البين أن هذا سعي واضح لجعل الوقف مؤسسة شبه حكومية يمكن التحكم بها وصرفها كما ترى الحكومة الفاشية بعيداً عن روحها الدينية.


ولا شك في أن هذه من من المحاولات المستهدفة المستهدفةمن التطرف القومي الهندوكي نحو الأقليات الهندية ، ويشير إلى هذا ما جاء من الإشارات والأقاويل الجديدة بعد إصدار الإعتداءات هذه على الأوقاف المسلمة. الفئة الباغية منهم قد طرح بعضا من تساؤلات حول ملكية الكنيسة الكاثوليكية للأراضي في الهند ، مشيرة إلى أن الكنيسة تمتلك من الأرض أكثر من سبعين مليون هكتار. ولكن ما كان الطرح بشكل رسمي وكان عشوائيا ولكن الطرح العشوائي محاولة واضحة لأخذ ورفع الموضوع إلى طاولات ومنصات النقاش. فإذا نوقشت و حصلت على بعض المأيدين فسيؤخذونها إلى البرلمان وثم يجعلونها قرار آخر وحربا على الكنيسة الكاثولكية. ونعرف أن أراضي الكنيسة أيضا من أهدافهم ويستند على هذه الدعوات إلى تعميم حكومي قديم يعود لعام 1965 يطالب الأساقفة بتسجيل أراضيهم لدى الحكومة ، رغم أن هذا التعميم لم يُفعل ولم يتحول إلى قانون نافذ. ومع ذلك، يبدو أن هناك محاولة لإحيائه، تماماً كما أُحييت قضايا وقف المسلمين بعد قرون استمدوا القوة و السيطرة على الحكم.


واستهداف الأوقاف في الهند اليوم ليس سوى تكرار لمحاولة اجتثاث الروح الإسلامية من خلال تجفيف منابعها. وفيها تكرار تاريخي يدرسنا ذلك التاريخ ضرورة التعمق في غياهب القانون الجديد. فحين نعود إلى صفحات التاريخ، وتحديدًا إلى ما جرى في مدن العلم والنور مثل سمرقند وبخارى، ندرك أن استهداف الأوقاف لم يكن يومًا مسألة إدارية محضة، بل كان ولا يزال سلاحًا أيديولوجيًا لضرب العمق الحضاري للإسلام. ففي تلك العصور، حين تغلغل التيار العلماني المدعوم من قوى سياسية جديدة، كانت أولى خطواتهم نحو إضعاف الإسلام هو تجفيف ينابيعه المؤسساتية. فبدأ الهجوم على الأوقاف، لا بحجة التطوير، بل بإلغاء استقلاليتها، ومن ثم فُرضت الضرائب على المدارس والمساجد، وأُعاقت مواردها الطبيعية التي كانت تكفل لها الاستمرار، وتضيق الخناق على العلماء وطلبة العلم الذين كانوا يتخرجون من تلك المؤسسات، ليفقد المجتمع بوصلة الهداية والعلم في آن واحد. ولمن يتفكر صريحا أن يتسائل: أليس ما يحدث في الهند نسخة جديدة من تلك الخطة القديمة؟ أليست التعديلات القانونية الجديدة تضيع مؤسسات الوقف، وتجريدها من قدسيتها، والسعي لإخضاعها للسلطة التنفيذية. والخطر لا يكمن في تغيير بنود قانونية فحسب، بل في تغيير وظيفة الوقف من حارس للهوية والمجتمع إلى أداة خاضعة لمعادلات الدولة السياسية والاقتصادية.


وخلاصة القول إنّ ما تشهده الهند اليوم من تعديلات قانونية تمسّ جوهر الوقف الإسلامي ليس مجرّد إصلاح إداري، بل هو حلقة جديدة في سلسلة من التحولات الأيديولوجية التي تستهدف البنية الدينية للأقليات. فالتضييق على مؤسسات الوقف، والتهيئة لاستهداف ممتلكات الكنيسة، يعكس اتجاهاً نحو مركزية الدولة في إدارة الشأن الديني، وتفريغ المؤسسات الروحية من استقلالها ورمزيتها. فعلينا أن ننتبه ونقوم قبل فوات الفرص والأوان.


0




0 Comments

No comments yet.

Leave a Comment

© www.thdarimi.in. All Rights Reserved. Designed by zainso